قصة نجاح مكتوبة بماء الذهب للمستشار الدكتور هانئ الدرديري
- رئيس المحكمة الإدارية العليا السابق.. الأستاذ المنتدب للدراسات العليا والتدريس الجامعي
صار للتوقيع الإلكتروني أهمية بالغة في الوقت الحاضر مع تسارع الاعتماد على التعامل الإلكتروني، ويتم استخدام التوقيع الإلكتروني بجميع أشكاله لتأكيد هوية الشخص، وإبداء موقفه القانوني من محتوي معين، سواء بالموافقة أو الرفض أو التحفظ… إلخ، وفي جميع الأحوال، فهو يتميز بالسرعة والسهولة في التنفيذ، مما يسهم في تسريع التعاملات، وتوفير الوقت، الجهد، والنفقات!!
ويتضمن التوقيع الإلكتروني استخدام التقنيات الحديثة مثل: التشفير، الكلمات والأرقام السرية، لضمان المصداقية والأمان.
وكل ذلك يحدونا للتعريف بالتوقيع الإلكتروني، وبيان أشكاله، وضوابطه، كالتالي:
أولا: التعريف بالتوقيع الإلكتروني:
عرف قانون الأونيسترال النموذجي الذي وضعته لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي في المادة (1/2) منه التوقيع الإلكتروني بأنه: “عبارة عن بيانات في شكل إلكتروني مدرجة في رسالة بيانات أو مضافة إليها أو مرتبطة بها منطقياً، ويجوز أن تستخدم لتعيين هوية الموقع بالنسبة إلى رسالة البيانات، ولبيان موافقة الموقع على المعلومات الواردة في رسالة البيانات”.
(مادة ١ فقرة ٢).
أما الاتحاد الأوروبي فقد فرق بين نوعين من التوقيع الإلكتروني هما:
١ – التوقيع الإلكتروني البسيط أو العادي وهو: “معلومة في شكل إلكتروني مرتبطة أو متصلة منطقياً ببيانات الكترونية أخرى تستخدم كأداة للتوثيق”.
٢ – التوقيع الإلكتروني المتقدم أو المعزز وهو: “التوقيع الإلكتروني الذي تتوفر فيه الشروط التالية:
أ – أن يحدد هوية الموقع ويمكن من التعرف عليه.
ب- أن يكون مرتبطاً بشخص صاحبه.
ج- أن يتم إنشاؤه بوسائل تضمن السرية التامة وتمكن الموقع من الاحتفاظ بها ووضعها تحت مراقبته وسيطرته وحده دون غيره.
د- أن يكون مرتبطاً بالبيانات التي يلحق بها بشكل يجعل أي تغيير أو تعديل في المستقبل على تلك البيانات قابلاً للكشف عنه.
وأما القانون المصري فقد نظم التوقيع الإلكتروني بالقانون رقم ١٥ لسنة ٢٠٠٤ بتنظيم التوقيع الإلكتروني وبإنشاء هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات، حيث عرف التوقيع الالكتروني في المادة (1/ج) منه بأنه: “ما يوضع على محرر الإلكتروني ويتخذ شكل حروف أو أرقام أو رموز أو إشارات أو غيرها ويكون له طابع متفرد يسمح بتحديد شخص الموقع ويميزه عن غيره”.
ثانيا: أشكال التوقيع الإلكتروني:
تتعدد أشكال وصور التوقيع الإلكتروني إلى الآتي:
1- التوقيع الرقمي أو الكودي: وهو عبارة عن: رقم سري أو رمز ينشئه صاحبه باستخدام برنامج حاسب ويسمى الترميز بحيث تتم الكتابة الرقمية للتوقيع أو المعاملة عن طريق التشفير الذي يتم باستخدام مفاتيح سرية وطرق حسابية معقدة (لوغاريتمات)، وهو يستعمل أكثر في التوقيع في المعاملات البنكية.
٢- التوقيع الإلكتروني اليدوي: حيث تتم هذه الصورة عن طريق تحويل التوقيع المكتوب بخط اليد إلى بيانات إلكترونية تمثله تقنياً ويستخدم في عملية التحويل جهاز الماسح الضوئي (Scanner)، ويتم حفظ هذه الصورة بطريقة إلكترونية لدى صاحب التوقيع، وعند إجراء عملية التوقيع يتم نقل هذه الصورة ووضعها على السند المطلوب توقيعه.
3- التوقيع بالقلم الإلكتروني: حيث تمثل هذه الطريقة في استخدام قلم إلكتروني يقوم بالكتابة على شاشة الكمبيوتر عن طريق برنامج معد لهذه الغاية، ويقوم هذا البرنامج بتلقي بيانات صاحب التوقيع، ثم يقوم الشخص بإدراج توقيعه باستخدام القلم الإلكتروني على مربع داخل الشاشة، ليقوم البرنامج فوراً بوظيفتين لهذا النوع من التوقيعات: الأولى: هي خدمة التقاط التوقيع، والثانية: خدمة التحقق من صحة التوقيع.
٤- التوقيع البيومتري: والذي يعتمد على الخواص الذاتية لشخص الموقع، حيث ينفرد كل شخص بعدة سمات فسيولوجية أو سلوكية لا يمكن تكرارها بين شخصين، ويتم التعرف على هوية أحد الأشخاص عن طريق هذه السمات استناداً على أنها مرتبطة بإنسان وتسمح بتمييزه عن غيره بشكل واضح ومحدد، ومن هذه الخصائص بصمة اليد، بصمة شبكية العين، والصوت، وغير ذلك.
ثالثا: الضوابط الهامة لاعتماد التوقيع الإلكتروني
حدد قانون الأونيسترال سالف الذكر في المادة السادسة منه الضوابط الهامة التالية لتحقق قانونية التوقيع الالكتروني:
- أن تكون الوسيلة المستخدمة لإنشاء التوقيع مرتبطة بالقائم بالتوقيع دون أي شخص آخر.
- أن تكون الوسيلة المستخدمة لإنشاء التوقيع الالكتروني خاضعة وقت التوقيع لسيطرة الموقع دون أي شخص آخر.
- أن يكون أي تغيير يقع في التوقيع الالكتروني بعد حدوث التوقيع قابلاً للاكتشاف.
أما القانون المصري رقم ١٥ لسنة ۲۰۰٤ سالف الإشارة فقد قرر في المادة “١٨” منه، أنه:” يتمتع التوقيع الإلكتروني، والكتابة الإلكترونية، والمحررات الإلكترونية، بالحجية في الإثبات، إذا ما توافرت الشروط الآتية:
(أ) ارتباط التوقيع الإلكتروني بالموقع وحده دون غيره.
(ب) سيطرة الموقع وحده دون غيره على الوسيط الإلكتروني.
(ج) إمكانية كشف أى تعديل أو تبديل فى بيانات المحرر الإلكتروني أو التوقيع الإلكتروني.
وهي تقريباً ذات الشروط التي قررها قانون الأونسيترال، ثم احال القانون للائحة التنفيذية لهذا القانون، لتفصيل الضوابط الفنية، والتقنية اللازمة، لضمان تحقق هذه الشروط .
محطات مفيدة في حياة المستشار الدكتور / هانئ الدرديري
من الحرب إلى المحاماة
بدايات المعادي:
تُوفي الوالد، رحمه الله، قبل أن يبلغ الخمسين من العمر، وقبل أن أبلغ أنا الخمس سنوات!
وعلى الفور، تولت الوالدة، رحمها الله، المسؤولية، فعادت للتدريس، حيث نقلت إلى المعادي لتتولي نظارة إحدى المدارس بها!
ولما كنت أصغر الأبناء، فقد أولتني، رحمها الله، رعاية خاصة، ولم تكثر على في النصائح، وإنما قالت لي، في حنو واضح، نصيحة واحدة، كان لها أبلغ الأثر في حياتي الدراسية، بل وفي مستقبلي كله، حيث قالت لي فيها: “ابني الغالي، إن تفوقت في دراستك وحياتك، وصرت باشا، فسأكون أنا مجرد أم الباشا لعدة سنوات قد تكون قليلة، وأما أنت فستصير الباشا لعمرك المديد كله، وربي يكرمك، ويحفظك، ويرعاك، لأني أتعشم فيك خيراً!!”.
يا الله .. ما أوجز وأبلغ هذه النصيحة، وبهذا الأسلوب الحاني الجميل الذي ما زلت أذكره حتي كأنه كان بالأمس، والذي جعلني أستعذب جهد الدراسة، وأقتصد في استعمال الوقت والجهد والنفقات في غير الدراسة، فحصلت علي الابتدائية ولم أبلغ بعد التسع سنوات، كما مضيت مسرعاً لأكون من أوائل كلية حقوق القاهرة، التي التحقت بها رغم المجموع الكبير في الثانوية العامة، لرجائي من الله سبحانه وتعالى أن أرتقي منصة القضاء!!
وكانت مكافأتي من الله سبحانه وتعالى على التفوق الدائم في سنوات الدراسة بكلية الحقوق، أن كنت أتقاضى مكافأة شهرية تزيد على الستة جنيهات (وكان ذلك مبلغاً كبيراً جداً وقتها!!) بالإضافة إلى العديد من الجوائز المالية، والشهادات التشجيعية، التي كانت تحدوني لبذل مزيد من الجهد، حتي صار من المضحك وقتها أن والدتي كانت أحياناً تقسو عليّ، لا لأذاكر، وإنما لأخفف شوية من المذاكرة، كما كانت تقول!!
من النيابة إلى ضابط احتياط بقوات الصاعقة:
فقبل أن أكمل عاماً في النيابة، كانت قد وقعت نكسة عام ١٩٦٧، التي لم يستثن من التجنيد بعدها أي وظيفة من الوظائف حسبما كان معتاداً من قبل، وفي الواقع فقد كنا نحن أيضاً نتوق للالتحاق بالجيش بعد أن آلمتنا النكسة إلى أقصى الحدود، وكان الشعور السائد وقتها، إننا يجب ألا نستسلم أبداً لهذه الهزيمة النكراء التي لا تتناسب أبداً مع إيماننا بضرورة الجهاد في سبيل الله، لعل هذا الجهاد الأصغر أن يصلح من نفوسنا حين نعود للجهاد الأكبر!!
وبلغ من حماسي في حياة الجيش، أنني فضلت الصاعقة على القضاء العسكري، ولذلك قصة طريفة، فبعد أن قضيت وقتاً في القضاء العسكري، شعرت أنني أحتاج أن أساهم في الحرب أكثر من ذلك، وانتهزت فرصة خبر علمته، وهو أنه مطلوب ضباط للعمل مع منظمة التحرير الفلسطينية، فتقدمت على الفور راجياً ترشيحي لذلك، حيث علمت أن أحد شروط قبول هذا الترشيح أن يحصل المرشح علي فرقة الصاعقة الراقية، فوافقت فوراً على هذا الشرط، حيث قضيت في هذه الفرقة مدة شهرين كاملين، تبدلت فيهما حياتي تماماً، فقد تعلمت ما لم أكن أتصور أن أتعلمه، واستعذبت حياة الصاعقة بكل كياني، وانتقلت بالفعل من سلاح المدفعية إلي مدفعية الصاعقة، في انتظار ذهابي لأشارك مع منظمة التحرير الفلسطينية، ولكن كانت بعض الأمور السرية قد تغيرت، فبقيت في الصاعقة لأقضي أحلى سنوات عمري إلى الآن!!
حيث بلغ من حماسي لهذه الحياة الجديدة، أنني كنت أعلى من حصل على الدرجات في فرقة “سرايا المسمار”، وهو اسم كودي لسلاح صواريخ أرض أرض، ثم كرمني المرحوم/ العميد يوسف صبري أبو طالب قائد مدفعية الجيش الثالث وقتها، ولاحقاً محافظ القاهرة ووزير الدفاع، بجائزة أحسن قائد سرية في الجيش الثالث، كما قدمت للمكتبة العسكرية في هذه الفترة، بحثين: أحدهما: عن الضرب المباشر بالصواريخ أرض أرض المذكورة، والثاني: عن الضرب بهذه الصواريخ بزاوية إزاحة كبيرة، رغم إن الكتالوج الخاص بها كان يتحدث فقط عن الضرب بها بزوايا الإزاحة الصغيرة (أي غير المنفرجة). كما قدمت للمكتبة العربية كذلك، كتابي، الذي نشرته الهيئة المصرية للكتاب بعنوان “المدخل للثقافة العسكرية”!!، وهو كتاب تناولت فيه معلومات ثقافية مفيدة عن الحرب التقليدية، حرب العصابات، والحرب النووية!!
وحين أعود إلي هذه الأيام أري أن الجيش هو مدرسة فريدة وحقيقية، ففيه تعلمت الانضباط، وتعلمت قيمة الوقت، واحترام التوقيتات، وتطورت في داخلي أحاسيس الشجاعة، والاعتماد التام على النفس، إلى مستويات لم أكن أتصورها، تحولت مع المعارك والاشتباكات مع العدو إلى شجاعة حكيمة، وانفعالات رشيدة بحق، وتعلمت وقتها أن هناك فرقاً بين الشجاعة والتهور، وأن كل الأمور يجب أن تؤخذ بتخطيط وحساب، ولهذا تعمقت نظرتي وزملائي في فهم القضايا الدينية والسياسية الجارية، وعلمنا وقتها على الأقل لماذا نحارب؟!، وما هو المعنى التعبدي الحقيقي لهذه الحرب!
ولأن هذه الحرب كانت مع بني إسرائيل، فكان لابد أيضاً أن نحيط بالتاريخ الديني للبشرية، وعلاقة بني إسماعيل ببني إسرائيل حسبما قدر الله سبحانه وتعالى!
وبعد ست سنوات في هذه الحياة العسكرية، التي لن أمل من شكر الله سبحانه وتعالى على ما أفادتني به فيما بعد في حياتي الشخصية والمهنية، عدت إلى الحياة المدنية، لأنتقل إلى محطة أخرى من المحطات الهامة في حياتي.
بين مجلس الدولة المصري والفرنسي:
ففي السنتين الأخيرتين بالجيش، ومع ما تشبعت به من الانضباط وتنظيم الوقت، التحقت أيضاً بالدراسات العليا، لأحصل على الأولوية في دبلومي الشريعة الإسلامية، والقانون العام، كما قدمت للمكتبة الإسلامية وقتها كتاباً نشرته هيئة للكتابة كذلك بعنوان: “التشريع بين الفكرين الإسلامي والدستوري”!
وبركات هذا الكتاب على حياتي ومستقبلي لا تعد ولا تحصى، فقد كان سبباً في حصولي على أعلى التقديرات في النيابة لأنتقل بها إلى مجلس الدولة، كما كان السبب في تفضيلي على سائر المتقدين للمنحة التدريبية في مجلس الدولة الفرنسي، حتى وجدت نفسي في النهاية لا أنتقل بسرعة إلي مجلس الدولة المصري فحسب، بل وأسافر أيضاً للتدريب في مجلس الدولة الفرنسي!!
وكان من أهم ما أفادني فيه هذا التدريب، أنني وجدتهم هناك، يتعاملون مع مجلس الدولة الفرنسي من خلال دليل عملي يبينون فيه الإجراءات اللازمة لذلك، فرجوت أن يكون لنا مثله في مجلس الدولة المصري، ولما عدت وشرعت في إعداده، تعشمت من الله أكثر، أن أزيد في هذا الدليل الصيغ القانونية اللازمة للتعامل مع القضاء الإداري عندنا، وكذا المبادئ القانونية الرئيسة في القضايا التي ينظرها، حيث صدر هذا الدليل في عام ١٩٨٠، وما زال مفيداً ومطلوباً حتي الآن!!
وقد واكب إصدار هذا الدليل، انتدابي للعمل بالمكتب الفني لرئيس مجلس الدولة، ولذلك قصة طريفة كذلك!!
فحين عدت من فرنسا تم إلحاقي بالدائرة الاستئنافية في هيئة المفوضين، التي تتولي تقديم التقارير في القضايا لتستعين بها المحاكم إن أرادت، وكانت أول قضية كلفت بالتقرير فيها تتعلق بموظف حصل بعد جهد جهيد، على حكم يُزيد في مرتبه بضعة جنيهات، ولكن قضايا الحكومة، التي صارت الآن قضايا الدولة، طعنت في هذا الحكم، لأنه صدر خلوا من عبارة “باسم الشعب”!!!
وقد غاظني هذا السبب وقتها جداً، وتصورت مدى ما سيعانيه هذا المحكوم له المسكين، حيث عليه أن يعيد بذل المجهود المضني الذي بذله ليحصل على حقه، لمجرد أن عبارة: “باسم الشعب” سقطت سهواً من الحكم الصادر له!!
وقد هداني الله سبحانه وتعالي وقتها لأن أكتب في تقريري: “إن هذا الحكم وإن صدر خلوا من “باسم الشعب”، فقد صدر مزداناً بـ”بسم الله الرحمن الرحيم” التي هي في ضمير هذه الأمة أعمق دلالة على أن القاضي قد أصدر حكمه متجرداً من أي غرض إلا إرضاء الله سبحانه وتعالى، وهو الغرض المبتغى من إصدار الأحكام باسم الشعب، وطبقاً للمادة (۲۰) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، المطبق أيضا أمام القضاء الإداري بمجلس الدولة، فإنه إذا تحققت الغاية من الإجراء صح هذا الإجراء ولو لم يتخذ”!.
وقد ارتاحت الدائرة الاستئنافية وقتها لهذا التخريج، واعتبرته سديداً، وقضت برفض الطعن!! ثم صادف وقتها أن رئيس وأعضاء هذه الدائرة ذهبوا لمقابلة رئيس مجلس الدولة لبعض الأمور، حيث حكى رئيس الدائرة هذا التخريج اللطيف كما قال لرئيس مجلس الدولة، حيث أطرق سيادته للحظة، ثم – في صمت – رنّ الجرس، ونادي مدير مكتبه، وقال له: أعد فوراً قراراً بندب المستشار المساعد / هانئ الدرديري إلى مكتبي الفني، فضحك الجميع لهذه المفاجأة! ثم أخبروني بها وهم يضحكون!!
ولم تتوقف المفاجآت الربانية في حياتي عند هذا الحد، ففي أول يوم في المكتب الفني كلفني السيد الرئيس بدراسة روتينية لمشروعات تشريعية ستعرض في اليوم التالي علي الأمانة التشريعية بمجلس الوزراء، وكان ذلك في حوالي الثانية ظهراً، حيث جئت له في اليوم التالي، في تمام الساعة الثامنة صباحاً، وقلت له: إن من هذه التشريعات ستة تشريعات تعتبر مخالفة للقانون والدستور، وقدمت له تقريراً مكتوباً عن كل واحدة منها، فقرأ هذه التقارير بإمعان، ثم ابتسم وقال: “عندك حق”، وتعالى معي لتحضر اجتماع اللجنة الوزارية التشريعية لأستعين بك هناك في عرض رأيك، وما إن استمع لي وزير شؤون مجلس الوزراء، وأنا أبدي ملاحظاتي على هذه التشريعات، حتى نظر إلى المستشار الجليل رئيس مجلس الدولة، وقال بعد إذنك يا معالي الريس، أنا سأنتدب المستشار/ هانئ معي أيضا في الأمانة العامة لمجلس الوزراء!!! حكمتك يا رب!!
ثم لم تقف المفاجآت عند هذا الحد، إذ في أول مقابلة لي في اليوم التالي مع هذا الوزير الجليل أيضاً، حتي قال لي: سمعت أن لك بعض المؤلفات، فأخرجت له من حقيبتي نسخاً منها، وما إن رأى من بينها كتابي: “التشريع بين الفكرين الإسلامي والدستوري”، حتي وجدته يتصفحه، ثم يطلب المرحوم الدكتور/ صوفي أبو طالب رئيس مجلس الشعب وقتها هاتفياً، ويتحادثان بحديث لم أسمعه جيداً، ثم استدار هذا الوزير الجليل بعدها، ليقول لي: “من بكرة إن شاء الله ستلتحق أيضاً بلجنة تقنين الشريعة الإسلامية بمجلس الشعب”!! ولله المنة والفضل مرة أخرى!!
ثم كان الأغرب بعد ذلك، أن المرحوم الوزير/ فتحي رضوان، وزير المجالس القومية المتخصصة وقتها، حضر في اليوم التالي لمقابلة وزير شؤون مجلس الوزراء، وكنت بالمصادفة عنده، فروي للوزير فتحي بركات ما حدث معي حتي انتدبت إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وإلى لجنة تقنين الشريعة الإسلامية بمجلس الشعب، بالإضافة إلى عملي بالمكتب الفني لرئيس مجلس الدولة، حتى قال له المرحوم فتحي بركات: وأنا أيضاً سأطلب من رئيس مجلس الدولة ندبه للعمل معي بعض الوقت في المجالس القومية المتخصصة!!
وألجمتني المفاجأة إلا من حمد الله سبحانه وتعالى، حيث قدّر لي في أيام قلائل أن أصبح في المكتب الفني لرئيس مجلس الدولة، وبالأمانة العامة لمجلس الوزراء، وبلجنة تقنين الشريعة الإسلامية بمجلس الشعب، وبالمجالس القومية المتخصصة!!
ثم كان من أكبر نعم الله عليّ بعد ذلك، أنني لم أمض شهوراً بالمجالس القومية المتخصصة، حتي الجمتني المفاجأة إلا من حمد الله مرة أخرى، إذ دخلت لأعرض بعض الأوراق على المرحوم الوزير فتحي بركات، فكان عنده بالمصادفة مبعوثاً للديوان السلطاني بسلطنة عمان، فقدمني له الوزير فتحي بركات وتحادثنا سوياً لوقت قصير، قال بعدها للمرحوم فتحي بركات: “يا فتحي بك، إن من بين أسباب زيارتي لمصر، أن أجد مستشاراً قانونياً مناسباً للديوان السلطاني، وها قد وجدته والحمد لله، فلنطلب المستشار الجليل رئيس مجلس الدولة، ليوافق علي إعارة المستشار / هانئ ليكون المستشار القانوني المطلوب للديوان السلطاني!!.. فهل من تعليق بعد ذلك، إلا أن أقول: “ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير”!!
ولم يمض بعد ذلك إلا أيام قلائل، حتى كان رئيس مجلس الدولة يقول لي مودعاً ضاحكاً.. “لولا أني أعلم أن في ذلك مصلحتك، وأن مثل هذه الإعارة لسلطنة عمان لا ترفض لاحتفظت بك، ولم أدعك تذهب إلى هذه الإعارة أبداً!!”
الإعارة لسلطنة عمان:
كان ذلك في عام ۱۹۸۱م حين وطئت قدماي سلطنة عمان لأول مرة.. بلدة طيبة.. ورب غفور .. أخلصت لها العمل، فأجزلت لي العطاء، وطلبتني للإعارة ثلاث مرات، كان آخرها بالقضاء الإداري بها في أول إنشائه.
وحرصت فيها دوماً على الدستور النبوي الذي أنتهجه في حياتي: “اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن”!
وكانت مقابلتي لوزير الديوان السلطاني (السيد / حمد رحمه الله) في أول وصولي هناك، من أطرف النوادر التي مازلت أضحك كلما تذكرتها!!
ففي اليوم الثالث لوصولي، وبعد أن استقرت أموري في السكن المؤثث الذي منحوني إياه، طلبوني لمقابلته ليتعرف إليّ.. وما أن دلفت إلى مكتبه، حتي وجدت رجلاً يشع منه الذكاء الفطري الشديد، وقام هاشاً باشاً ليصافحني، ثم أمرهم أن يقدموا لي القهوة والحلوي العمانية الشهيرة!
ثم ابتدرني قائلاً: باعتبارك أول مستشار قانوني يأتي إلينا من مصر، أريد ان أعرف ما هو القانون؟!! وأطرقت لبرهة قصيرة، وأنا أسأل نفسي، هل هو يريد مني فعلاً تعريفاً أكاديمياً للقانون، أم أنه يجاذبني أطراف الحديث؟! ثم لم ألبث أن قلت له: معاليك، فقاطعني على الفور وقال: قل “أبو سامي”، فابتسمت وقلت له: يا أبو سامي (لغوياً يا أبا سامي طبعاً)، أنت الآن طلبت لي قهوة وحلوى، وهذه القهوة والحلوى جاءت من بوفيه، وهذا البوفيه تم اختياره من مزاد تم بإجراءات قانونية، وهكذا تري أن القانون يدخل في كل شيء في الحياة، فضحك، وقال: “إذن دعنا من الآن نتفق علي أن القانون قهوة وحلوى!!!هه!!
ثم لم تمض سنوات قليلة، حتى كلفت هناك بأغرب عمل في حياتي، وهو الإشراف علي إنشاء حديقة عامة لافتتاحها في اليوم الوطني لسلطنة عمان، لا من الناحية القانونية والمناقصات والمزايدات فحسب، وإنما من الناحية الإنشائية أيضاً!!
وتذكرت أيام الصاعقة، وما اكتسبته فيها من مهارات شخصية عديدة تصلح لأن تعين في أي أمور يواجهها المرء، وقمت بالإشراف التام علي إنشاء هذه الحديقة، وما أن أبلغ السيد/ حمد، رحمه الله، جلالة السلطان قابوس رحمه الله أيضاً، بما أقوم به في إنشاء هذه الحديقة، حتى فوجئت بجلالته يحضر للزيارة، في مفاجأة كانت حديث عمان، حيث رافقته شارحاً موضحاً ما نقوم بتصميمه وإنشائه، فنظر إلي مبتسماً وقال: أريد أن أعرف، هل أنت مستشار أم استشاري؟!! وضحك..!، ثم أرسل لي بعدها جلالته هدية قيمة ما زلت أعتز بها! وإن الله لا يضيع أجر من أحسن في الدنيا أو الآخرة!
العودة للقاهرة في المرة الأولى:
انتهت الست سنوات المقررة للإعارة في سلطنة عمان، فعدت للقاهرة لأنتهي من رسالتي للدكتوراه بعنوان: “نظام الشوري الإسلامي مقارناً بالديمقراطية النيابية المعاصرة”، التي ختمتها بمشروع دستور إسلامي، وفرقت فيها تماماً بين: “مبدأ الشورى” الذي يخلط بينه المتحدثون، وبين نظام الشورى الإسلامي كنظام للحكم، وما ينظمه من سلطات ثلاث لازمة له، ولكنها في الإسلام تختلف عن النظم الوضعية، وإن تشابهت معها في بعض المسميات!
وحسبت أني سأرتاح قليلاً بعد ذلك، ولكن قدري كان غير ذلك، فقد انهالت علي طلبات الانتداب للتدريس الجامعي وللدراسات العليا، فانهمكت في كتابة المؤلفات اللازمة لذلك ومنها: التشريعات الإعلامية، النظم السياسية وسياسة الإعلام، الاتجاهات العالمية المعاصرة في الإعلام التربوي، المركزية واللامركزية، المناقصات والمزايدات، حقوق وواجبات الموظف العام .. وغيرها، كما تم انتدابي كذلك للتدريب بمركز الدراسات القضائية سواء في القضاء العادي أو بمجلس الدولة، وهو ما استلزم بدوره كتابة العديد من الأبحاث والموضوعات التدريبية!
ومع هذه المهارات التدريسية والتدريبية، اكتسبت أيضاً العديد من المهارات الإدارية والقيادية، حيث انتدبت كذلك مستشاراً قانونياً بالهيئة العامة للرقابة علي الصادرات والواردات، ولوزير التجارة، وجهاز حماية الملكية الفكرية، والهيئة العامة للمعارض وغيرها من الجهات!
ولم يكن ذلك أبداً علي حساب عملي بمجلس الدولة، إذ ظلت سمات الانضباط التي اكتسبتها في فترة الجيش، تعينني علي ضبط الوقت ليسمح لي بأن أعطي كل عمل حقه! يشهد على ذلك عملي برئاسة المحاكم منذ عام ۱۹۹۰ م، وحتى اكتمال عطائي في عام ٢٠١٦ م.
تولى رئاسة المحاكم منذ عام ۱۹۹۰، وحتى اكتمال العطاء في عام ٢٠١٦:
شاء الله لي، أن أتولي رئاسة المحاكم في وقت مبكر منذ عام ۱۹۹۰م، حيث توليت أولاً رئاسة المحكمة الإدارية بأسيوط، ثم ضمت لي المحكمة التأديبية بها أيضاً، كما في العام التالي توليت رئاسة المحكمتين الإدارية والتأديبية بقنا كذلك، حتى كان الزملاء يتندرون ويقولون: “الدكتور/ هانئ رئيس القطاع الجنوبي للمحاكم!!”.
وبعد عدة سنوات قليلة، توليت بعد ذلك محكمة القضاء الإداري بأسيوط أولاً، ثم بالقاهرة لعدة سنوات، قبل أن أشغل في نهاية الأمر منصب رئيس المحكمة الإدارية العليا، وعضو دائرة توحيد المبادئ، ومجلس التأديب، والمجلس الخاص بمجلس الدولة، حيث اكتمل عطائي بعد ذلك، ولكن قبل هذا الاكتمال، كنت قد أعرت أيضا إلي الديوان الأميري وجهاز المحاسبات بقطر.
الإعارة إلى قطر:
لأن حياتي كانت دائماً متلاحقة وسريعة بقدر الله سبحانه وتعالي، فقد فوجئت في زمرة انشغالي بكل ما تقدم، بأحد المسئولين في قطر، يحضر إلى القاهرة ويهاتفني طالباً المقابلة.. ولم تستغرق مقابلتنا سوي نصف ساعة، قال لي فيها إنه كل شيء، وأن بعض خلطائه في سلطنة عمان أثنوا عليّ أيضاً، وأنه لذلك يطلب مني الموافقة على إعارتي لديهم بأعلى راتب يمنح للمعارين هناك!
ولم أجد مع حسن خلقه وعرضه، بُدًّا من الموافقة، حيث قضيت هناك عدة سنوات طيبة، قبل أن أعود مرة أخرى لأستأنف عملي برئاسة المحاكم حسبما تقدم، وإلى أن أكتمل عطائي كما قلت.
العمل بالمحاماة: أسباب ودوافع
كنت قد نلت شهرة مناسبة في عملي القضائي من أحكام عادلة وشهيرة أصدرتها المحاكم التي توليت رئاستها، وما إن اكتمل عطائي حتي فوجئت بالعديد من كبرى الشركات ورجال الأعمال يتصلون بي لأكون المستشار القانوني لهم؟!
لكني قلت لنفسي إن خبرتي، والحمد لله طويلة، ومؤلفاتي العملية عديدة، ولو صرت مستشاراً قانونياً لأحدهم فقط، لانتفع وحده بكل هذه الخبرة العريضة، التي أري من الأوفق والأرضي الله سبحانه وتعالي، أن أبذلها لكل من يطلبها، حيث فضلت لذلك أن التحق بمهنة المحاماة ليس من أجل المال أبداً، فهو والحمد لله كان معي بقدر مناسب بما ورثته من أبي وأمي، وإعارتي لسلطنة عمان وقطر لسنوات عديدة، ولكن لأن هدفي الأساسي من الاشتغال بالمحاماة هو أن أنفع كل من يستعين بخبرة الخمسين عاماً التي قضيتها بالعمل القضائي، وغيره!!
وأحمد الله سبحانه وتعالي أني اتخذت هذا القرار، فالشركات ورجال الأعمال الذين كانوا يطلبونني كمستشار قانوني لهم، صاروا أيضاً من المتعاملين معي كمحام، وللثقة التي اكتسبتها في هذا المجال من المتعاملين معي في العديد من القضايا من كل الأنواع، وجدت مكتبي وقد صار مركزاً قانونياً معروفاً للمحاماة والتحكيم والاستشارات القانونية، حيث التحق به العديد من المحامين الأكفاء، والسكرتارية المدربة، وما يلزم لكل ذلك من سعاة وعمال نظافة، فارتاح قلبي أن تكون لي هذه المساهمة التي أحمد الله عليها، في معاونة من عملوا معي في فتح بيوتهم، وإعالة أسرهم وأبنائهم بقدر مناسب ليس لي فيه سوي التوصيل، فالله سبحانه وتعالى هو الرزاق ذو القوة المتين!!
وقد راعيت منذ اليوم الأول لي في المحاماة، أن أتعامل فيها بمنطق المحاكم التي توليتها، فإذا جاءت لنا قضية، فإن أحد المحامين الأكفاء بالمركز يتولى دراسة موضوعها ومستنداتها، ثم يقدم عن ذلك تقريراً وافياً، لأقوم وجميع من يعمل معي بالمركز من المحامين، بالمداولة التامة فيها، حتى نستقر علي ما سنكتبه، ثم أقوم أنا بمراجعة ما كتب كلمة .. كلمة، بل حرفًا.. حرفًا، لأطمئن إلى أن كل موضوع قد أخذ حقه في البحث والكتابة، ثم أعطي التوجيهات اللازمة لمباشرة الإجراءات المطلوبة قبل انقضاء المواعيد بوقت كاف، مع تسجيل المواعيد والترحيلات بدقة تامة بالأجندة القضائية أولاً بأول، وكل مأمورية تتم لإحدى القضايا لابد أن يقدم عنها تقرير كتابي، يحفظ بملفات شهرية وسنوية، حتى إننا نستطيع بعد سنوات أن نراجع أي إجراء تم في أي قضية!!
ولله وحده، الحمد والمنة والفضل على ما أنعم وأولي، فهو السميع العليم..